Powered By Blogger

أكاذيب جدتى الاثنين, يوليو 27, 2009

أكاذيب جدتى
******
بقلم: سامية أبو زيد

بعد انتهاء الماشطة من مهمتها التى امتدت لساعات طوال، بدءا من القناع وانتهاء بطلاء الأظافر، والتى اضطرت لإعادة طلائها أكثر من مرة بسبب حركتى المستمرة التى لم تخل من خرق واش بما أنا عليه من توتر، وبعد إحكام ثوب الزفاف حول جسدى الذى فقد الكثير من وزنه فى الآونة الأخيرة، جاء دور ’’الطرحة‘‘.
حينئذ أصرت أمى أن تلبسنى إياها بنفسها رغم احتجاجات الماشطة المشفقة على جهدها من الضياع بعد ساعات طويلة من حمام الزيت والغسيل والتجفيف ومن ثم التصفيف، إلا أن عناد أمى أجبرها على الانصياع لرغبتها، فقد كان تقليدا موروثا فى العائلة أن طرحة الزفاف مسئولية أم العروس ونذرا مضمرا لا يجب الإخلال به، وهى فى واقع الأمر متطيرة من قطع تلك العادة معى فتكون فألا سيئا.
وفى المرآة التقت أعيننا وهى تهم بوضعها على رأسى، كان المنظر مدهشا لى إلى حد كبير وموحيا، فمع جلستى المذعنة وإحاطتها بى والطرحة مبسوطة بين يديها شعرت باحتوائها التام لى وكأننى أعود لرحمها. ومع طول التحديق عبر المرآة كدت أراها فى نفس جلستى تلك ومن خلفها جدتى ومن خلف جدتى أمها، وسلسلة لا تنقطع من الأمهات الممسكات بطرحة الزفاف، كصورة منعكسة لعدد لا متناه من المرات فى مرآتين متقابلتين.
ومع الدمعة المترقرقة فى عين أمى انجرفت وإياها فى تيار من الشجن والذكريات، وكأن جدتى تحوم بروحها حولنا فى قلق.
كيف لا وهى من تزوجت عن حب؟! فقد كان الحب مذهبها فى الحياة، عاشت تحكى لنا قصص الحب المستحيلة وتغنى لنا بصوتها الشائخ المحبب أغنية ’’يا حسن يا خولى الجنينة‘‘، وحين نسألها ما معنى الخولى يا جدتى؟ تجيبنا بأنه الجناينى فتفتح على نفسها أبواب الحكايات إذ نغتنم الفرصة ونلح عليها أن تقصها علينا، فلا تجد بدا من البدء بحكاية الأميرة ست الحسن والجمال والشاطر حسن الفقير الغلبان، وتلتمع عيوننا وتخفق قلوبنا الخضراء ونحن نسمع سيرة عنترة العبد الأسود وقصة حبه لعبلة، ونظل على هذا الوضع فتحلق بنا من حكاية لحكاية حتى نغفو على سيرة الحب، وبداخل كل منا الحلم بتذوقه يوما.
وفى عينى أمى كدت ألمح نظرة معتذرة نادمة وهى تسترجع يوما كدت أنهى فيه حياتى.
يوم أن صادفت حب العمر الذى حلمت به طرت نحو جدتى فرحة بخفقات قلبى الأولى، كانت أول من عرف بالأمر ولعلها كانت أسعد منى.
لم تسألنى عن ظروفه أو عائلته، كان كل همها أن تعرف كيف أفصح لى عن حبه، فأخبرتها أنه اعترف بعد أن ضبطت صورتى مرسومة بريشته فى كشكوله واسمى يحيط بها على شكل قلب وفى طرفه الصغير اسمه وكأنه مجرد توقيع كعادة الفنانين.
فى ذلك اليوم صممت على النوم فى حضن جدتى، وسهرنا طول الليل نتهامس، ونخفى رأسينا تحت الغطاء بمرح طفولى كلما فتحت أمى الباب علينا وترفع جدتى صوت غطيطها المصطنع حتى تقفل الباب وتنصرف، وذلك بعد أن عنفتنى على إرهاقى لجدتى بالسهر والثرثرة.
ولكن يبدو أن أمى كانت محقة فى غضبها، إذ لم تمض أيام على تلك اللحظات السعيدة حتى ساءت حالتها وفارقتنا، ولأمر ما بداخلى تطيرت وشعرت بأن قصة حبى تمضى إلى نهاية غير سعيدة بعكس حكايا جدتى.
وندت عنى زفرة حارة مصحوبة بغصة فى فؤادى وأنا أتذكر الرفض المهين من أهلى لحبيب العمر، لكم افتقدت جدتى فى تلك اللحظة، بل إننى بكيت منادية إياها كطفلة فى الخامسة من عمرها لا الخامسة والعشرين، وحين لم أجد حولى مؤازرا حاولت إنهاء حياتى.
وأمعنت التحديق فى عينى أمى لعلها تتذكر ما فعلوه بى آنذاك، فوجدتها تذكر جيدا ما حدث، ورغم تقديسها لأمها... جدتى، إلا أنها لن تسمح لى بتضييع مستقبلى مع شخص دون المستوى ولأخبط رأسى فى الحائط، فكان بديهيا أن أتسلل لحجرة جدتى المغلقة منذ وفاتها لأتناول كل ما وقع تحت يدى من الأدوية وأرقد فى سريرها بانتظار الخلاص من ذلك العذاب.
فى هذه اللحظة هوت أمى بالطرحة على رأسى وكأنها تفيقنى من غيبوبة الذكريات، لأرى نفسى عروسا جاوزت الثلاثين من العمر، تتزين لبدين أصلع يليق بها.
لم يتزوجا يا جدتى الحبيبة... الكاذبة.

0 التعليقات: