Powered By Blogger

بطل لا تعنيه البطولة السبت, ديسمبر 31, 2011


بطل لا تعنيه البطولة
بقلم: سامية أبو زيد
كان يشكو لجده اضطهاد الزملاء له لولعه بالعلوم وتفوقه فيها فيتمثل اضطهادهم له فى السخرية من بدانته واتهامه بغرابة الأطوار، لذا فقد انعزل عنهم واتخذ له مهربا فى قوقعة بناها حول نفسه، ولكن الجد لم يرض عن لجوء حفيده لعدم المواجهة والاستسلام للعجز والاحتجاب عن الناس، فنصحه قائلا: ’’سوبرمان ليس بطلا، فهو مجرد مستخدم لقواه التى منحتها له الظروف، فأين البطولة فى ذلك وهو الرجل الخارق!؟‘‘.
المقطع السابق هو مشهد من فيلم أمريكى لا أذكره ولا أذكر من تفاصيله سوى نصيحة الجد لحفيده، ولا أنكر أنها أصابت فى نفسى هوى وأفرزت رؤية مغايرة لمعنى البطل والبطولة، ولنأخذ على سبيل المثال موقف الشحات حين تسلق تلك الطوابق المتعددة ليسقط علم اسرائيل ويرفع مكانه العلم المصرى وهتاف الجماهير له عقب ذلك: ’’انزل يا بطل، انزل يا بطل‘‘، والمؤسف فى الأمر أن البعض لم ير فيما فعله سوى مهارة بهلوانية لاننكرها عليه، ولكن هل كان يتحدى قانون الجاذبية فحسب حين قام بفعلته؟ ألم يكن عرضة للانزلاق أو التفاف العلم حول عنقه بفعل الريح فى الأدوار العليا؟ أو أن يتهاوى به جهاز من أجهزة التكييف التى كان يستخدمها كمنطات بين الطوابق؟
فى ظنى أن بطولة الشحات هى بطولة مؤقتة، عفوية وليدة اللحظة، وأهميتها تكمن فى تأثيرها النفسى على الجماهير، وكلنا نذكر كيف ارتفعت الروح المعنوية بعدها، ولكن...
سرعان ما كان لفعلته تداعياتها على أكثر من صعيد، فهناك من وقع تحت تأثير سحر اللحظة ورفض الخروج من نشوتها أو لنقل إنه عجز عن الإفاقة منها، وعلى جانب آخر استشعر أعداء الثورة الخطر فى هذا الشحذ المعنوى فعمد إلى تشويه صورته والتهوين من فعلته، ووصل الأمر لمحاولة سرقة هذه البطولة أو الأضواء التى سلطت عليه ونسبة الفعل إلى نفسه، لينشغل الناس فى النهاية بالانقسام حول البطل الحقيقى أهو الشحات أم شخص آخر، أهو حقيقى أم مدع، وحول هذا الفعل أهو بطولة أم مجرد أكروبات لا تختلف عن تلك التى يقوم بها أى ’’حرامى مواسير‘‘ أو هجام، او حتى فرد صاعقة مدرب!!
ننشغل بذوى الأفعال الخارقة اللحظية ونغفل عن أبطال يمشون بيننا، نراهم ولا نرقبهم لنرى قوتهم الحقيقية اليومية.
حين استشهد خالد سعيد لم تعنه البطولة، بطولته كانت وليدة الصدفة، وأثرها هو البذرة الحقيقية للثورة، لم يكن وائل غنيم ومساعدوه فى صفحة ’’كلنا خالد سعيد‘‘ هم الأبطال، بل كل من اعتنق الفكرة ووجد كلمة ’’كفاية‘‘ وقد أصبحت فرض عين، فارتدى السواد ونزل فى صمت ليقف على الكورنيش.. أى كورنيش دون أن ينظر حوله متسائلا هل من أحد يرانى؟ هل معى أحد؟
من هؤلاء الذين نزلوا فى صمت ثم علا صوتهم حتى أطاح بالطاغية الرابض لعقود على حكم البلاد؟
الذين نزلوا هم أبناء الأبطال المتهمين بالصمت لثلاثين عاما على طغيان مبارك، كل أب اقتطع من قوته ليوفر لابنه جهاز كومبيوتر ولجأ لإدخال وصلة فى بيته تعينه على غسيل وعيه من الإعلام الزائف والانفتاح على العالم، هو بطل.
كل أب وكل أم عانوا من فساد التعليم وتزييف الوعى فاجتهدوا فى رفع ما تيسر من تلك الأدران عن عقول أبنائهم كى لا يحبطوا وتغتال أحلامهم مثلهم، بم نسميهم غير أنهم أبطال؟!
ذلك الأب العامل وتلك الأم العاملة، من رأى الفساد واكتفى بأضعف الإيمان فلم يشارك فيه، هؤلاء هم من أنجبوا هذا الشباب الثائر. منهم من حاول منع ابنه من النزول للمشاركة فى الثورة لينزل هو، ومنهم من اصطحب أسرته بأكملها.
البطولة ليست وليدة يوم أو ساعة، بل هى فعل يومى متصل، الموظف الشريف الذى يدبر حاله بمرتب لا يكفل له العيش الحاف فيبحث عن عمل إضافى كى لا يمد يده بالسؤال أو يمدها للحرام ويجاهد نفسه هو بطل حقيقى. حين تراه محشورا فى أوتوبيس نقل عام ويشق طريقه بين الركاب ليقفز أمام محل عمله بم تسميه؟
الأم التى تذبل تحت وطأة الهموم بين إدارة شئون أسرتها وعملها إن كانت عاملة، أو تصبر على غياب الزوج طيلة النهار إذا كانت غير عاملة، وترعى فى غيابه الأبناء متحملة الأمانة بجلد وصبر هى بطلة ولا ريب. ليس مطلوبا منها أن تكون خنساء أخرى تقدم أبناءها للاستشهاد فى سبيل الوطن لكى تستحق لقب الأم المثالية أو أن تسبغ عليها سمات البطولة، لو انها اكتفت بحمايتهم من الانحراف فى زمن المغريات، لكفاها ذلك.
الواقفون فى طوابير العيش وأنابيب الغاز، السائرون فوق قوالب الطوب فى الليالى الممطرة، الواقفون تحت حر الشمس بانتظار الأوتوبيس، المتحملون لسخافات وبلطجة سائقى الميكروباص بأغانيهم أومواعظهم الدائرة عبر الكاسيت حول عذاب القبر والثعبان الأقرع والسحر والعين. المعتدلون الحافظون لصحيح دينهم من مسلمين ومسيحيين والمتمسكون بمصريتهم فى وجه رياح الفتنة العاتية وفى وجه زارعى البغضاء، كل هؤلاء لا تعنيهم البطولة وبريقها لكن صبرهم من صبر الأنبياء.
وتحضرنى فى هذا الصدد ذكرى مهرجان أقيم لتكريم الأم الفلسطينية لكونها نموذجا للصمود والبطولة، لا لأنها تلد الشهيد تلو الشهيد ولا المناضل والأسير فحسب، ولكن لمجابهتها كذلك صنوف النكال من المحتل عبر العقود الستة الماضية وإرهابه وحصاره؛ ولكونها الأم الفلسطينية الصامدة فكان لابد للأبناء الذين جاء فطامهم على حد الصمود من نصيب فى هذه البطولة اليومية، فنذكر حرص التلاميذ الفلسطينين على عدم الانقطاع عن الدراسة رغم الحصار ورغم القصف، وكيف أنهم كانوا يحصلون ما يفوتهم فى خيام بديلة عن مدارسهم التى يحاول العدو الصهيونى حرمانهم منها لكى يبقى على التفوق النوعى الذى يعوض به الفارق العددى الآخذ فى الازدياد.
بيد أن الصمود الفلسطينى وما يستتبعه من بطولة لهو وليد التحدى الواضح المباشر، بخلاف بطولات من نوع آخر وليدة الصمود إزاء الإغراء والغواية والافتتان بالنفس فى بعض الأحيان، وهو ما يفسر انزلاق بعض المناضلين ذوى المواقف المشهودة فى نبلها وشرف مقصدها لغواية المجد المبنى على تلك المواقف الغابرة، وشيئا فشيئا يتحول المناضل من هؤلاء  إلى نصف إله لا يأتيه الباطل من بين يديه فيستطرد فى التنظير والمزايدة لينزلق أتباعه بدورهم نحو الغوغائية والحماقة... والانقسام فى أغلب الأحوال، حتى يندثر الهدف الأصلى بشكل كامل، إلا من رحم ربى، ومن رحم ربى بم تسميه؟
وبالمثل نجد حملة الأمانة، أمانة الكلمة والرأى؛ فمنهم من يفتنه ما لديه من العلم فيقع فى فخ الغرور وتغويه الألقاب ليصبح طاغية بعدها ونقده زندقة تستأهل العقاب، أما من يذكر نفسه بأن ما لديه من العلم قليل قليل، ولا يكف عن السعى للمزيد من العلم دون تعال عمن هم دونه مقاما أو علما، ذلك الحريص على تذكرة نفسه بفضل الآخرين وألا اكتمال له إلا بهم... ذلك الحامل لروح العالم المتواضع الحق لهو فى نضال مستمر مع نفسه ومجالد لها وبالتالى فهو فى حالة فعل البطولة التى لا تنقطع، والتى لا يشترط لها أن تتمثل فى موقف عصيب يمر حاملا معه تبعاته أيما كانت.
وهى ليست بطولة تقتصر على الأعمى حين يقهر الظلام ولا بطولة متحدى الإعاقة، كما أنها ليست بطولة المبتلى بعيب خلقى يواجه به المجتمع كل يوم رغم تكرار الفعل، بطولة هؤلاء الحقة تتمثل فى إرادتهم فى قهر تلك الابتلاءات وتخطيها.
قياسا على كل ما سبق نوجز معنى البطولة فى بطولة فعل فريد أو حدث غير عادى يحتاج إلى مهارات خاصة وشجاعة الفعل ـ والقول نوع من أنواع الفعل ـ وتحمل تبعاته وعواقبه، وأخرى يومية معاشة تتلخص فى تفاصيل الحياة اليومية، كل يوم تنهض فيه من فراشك لتفتح باب يومك المجهول وتسعى حاملا معك كل ضعفك وعيوبك وهواجسك، وفى بعض الأحيان تشوهاتك النفسية أو البدينة هو فعل بطولى متكرر، هناك بطولة تصرخ فيك لتهب من سباتك، وأخرى تهمس فى أذنك بدأب وصبر لتثبت على طريقك نحو تحقيق أحلامك، وكلتاهما لا تحتاج من المرء أن يكون ذا قوة خارقة، أو قناع يخفى خلفه ملامحه كى لا يعرف الأعداء هويته فيصيدوه من نقطة ضعفه، البطل الحق لابد أن يحمل بين جنبيه ضعفا ما.. شرا ما يحاول تثبيطه فيقهره، البطل الحقيقى هو الإنسان، الإنسان العادى، إنسان كل يوم الذى يواجه الغيب وما يحمله من أشباح الخوف والجوع والمرض والفناء، والذى يواجه الحاضر المتخم بالأطماع والنفاق والدسائس ومكر الماكرين، هو ذلك الذى لا يكف عن الحلم بغد أفضل والعمل على تحقيقه حتى لو اضطر للاصغاء لأكاذيب الساسة وترهات الإعلاميين فى زمن الفوضى الإعلامية.
هو من يستفت قلبه وإن أفتوه، فيثبت على السعى نحو الكمال.. ذلك هو بطل كل يوم.

0 التعليقات: