Powered By Blogger

ماذا تكون؟ قصة قصيرة بقلم عبد الرحمن شاكر الأحد, مارس 27, 2011

ماذا تكون؟



بقلم: عبد الرحمن شاكر


كان ذلك فى أتوبيس 29 ، ’’النازل‘‘ من مصر الجديدة إلى العتبة. حوالى الساعة الحادية عشر صباحا. كنت واقفا فى مقدمة السيارة، أمام المقعد ’’المستعرض‘‘ المخصص لثلاثة ركاب. وعند محطة شارع ’’الملك‘‘ صعدت هى. أدهشنى مظهرها، بعد أن أفسحت لها مكانا للوقوف إلى جوارى. أول ما صدمنى منها رائحة دهنية ’’زهمة‘‘ تنشرها فيما حولها، خيل إلى أنها رائحة ’’فزلين‘‘، فزلين سادة لم يعطر ليصبح ’’بريانتين‘‘. وعهدى به ألا تضعه سيدة محترمة على شعرها، بل هو يفوح عادة من رؤوس الخادمات ومن فى مستواهن، أو أولاد البلد اليافعين ’’يسبسبون‘‘ به شعورهم الخشنة. وعلاوة على ذلك لم يكن شعرها خشنا. بل كان ناعما طاوعها فيما فعلت به، فسرحت نصفه إلى الخلف وشوشت نصفه الآخر إلى الأمام، حتى ظللت أطرافه جبهتها.


إذن كانت هذه رائحة ’’كريم‘‘ رخيص لطخت به وجهها تحت ’’التواليت‘‘ الكثيف، حتى يكاد ينطق من تحت أحمر الشفاه الذى لم يستقر على كل هذه الكمية من الدهن. واستغرقت فى تأملى لها، وتساءلت عما تكون؟


قطعت لأول وهلة بأنها ليست سيدة على الاطلاق. وإلا لما تركت هذه الرائحة السمجة تفوح منها، ولحرصت على تغطيتها بأى نوع من العطور ـ رخيصا كان أم غاليا ـ فلماذا إذن كل هذا التزين ’’الفقايرى‘‘ الصارخ، الذى كومته على وجهها، بينما تركت رقبتها ’’مقلحفة‘‘ أقرب إلى القذارة؟


ولم يكن الفقر ماثلا فى زينتها فقط، بل فى ثيابها كذلك. كانت تلبس ’’بلوفر‘‘ أخضر من الصوف بادى القدم، لم تكن تحته بلوزة، بل تركته يكشف عن عظام ناتئة فى أعلى صدرها، ويظهر ثدييها مسترخيين فى ضعف بعيد عن الجمال. وعلى نصفها الأسفل تلبس جونلة رمادية مخططة عادية جدا، وفى قدميها حذاء بسيط بلا كعب، بادى القدم مثل البلوفر.


وسألت نفسى مرة أخرى ماذا تكون؟ ثم أتى الكمسارى وطلب منها ثمن التذكرة، ووقعت عينى على محتويات حقيبتها حينما فتحتها.. علبة سجاير بلمونت.. وقلم حبر صينى.. وبضعة مناديل. ثم تناولت ورقة من ’’أرضية‘‘ الحقيبة من فئة ’’الخمسة وعشرين‘‘ قرشا، وقدمتها للكمسارى، قائلة بصوت مبحوح: ’’بثلاثة صاغ‘‘، بدلا من أن تذكر المسافة كما تقتضى أصول اللياقة.


أخذتها على أنها امرأة مسكينة من بنات الهوى، ذاهبة إلى ميعاد نهارى مع أحد الرجال المتبطلين الميسورى الحال. السجاير وفهمناها، ولكن ماذا يفعل هذا القلم ’’الفقايرى‘‘ أيضا فى حقيبتها؟ إنه لا يصلح لأناقة سيدة. فما تصنع به هذه؟ ربما لكتابة أرقام التليفونات، وعناوين الشقق الخاصة، من يدرى؟ لله فى خلقه شئون.


هل تكون سيدة متزوجة، وأنا أظلمها بأوهامى؟ وقد تقدمت بها السن قليلا فهى تحرص على استبقاء جمالها بطريقة رخيصة متسرعة، ’’على قد حال‘‘ ربة البيت التى يستهلك العيال وقتها ونقودها واهتمامها جميعا؟ وتطلعت إلى يدها اليسرى، التى يغطى أظافرها بقايا ’’مانيكور‘‘ والأظافر نفسها ليست طويلة شأن الأنيقات. ولمحت فى الموضع المخصص لدبلة الزواج خاتما عاديا له فص رخيص.


إذن هى كما خمنت لأول وهلة. غير أنى سمعتها تقول فجأة: ’’مش معقول!‘‘.. ايه هو اللى مش معقول؟! والتفت إلى حيث وجهت نظراتها: لقد تعرفت على اثنين من الجالسين على المقعد أمامى وأمامها، شابين أنيقين، ومعنى كلمتها إذن أنها لم تكن تتوقع لقاءهما هنا.


وعرفها الشابان بدورهما ـ وتخلى لها أحدهما عن مكانه قائلا: ’’أهلا، ازيك يا دكتورة، اتفضلى.‘‘


دكتورة؟! يا خبر اسود!


وجلست أمامى مكان صاحبها، وراحت تتبادل مع الجالس والواقف معا حديثا نصفه بالانجليزية عن الطب والمستشفيات.


وعدت أتأملها من جديد، وأنا ألوم نفسى على تسرعى، وآسف لخيبة ظنى فى فراستى التى أعتد بها، وأقول لنفسى: ’’يموت المعلم ولا يتعلم‘‘. إذن هذه الجالسة أمامى دكتورة! وأنا لم أخطئ فى حقها فقط، بل فى حق توتو وفيتوريو دى سيكا أيضا، حينما أخذت عليهما أن قدما لنا فيلما تظهر فيه الدكتورة وكل ما فيها ينطق بأنها مجرد امرأة. وها هى ذى أمامى دكتورة، لم أكتف بالنظر إليها على أنها امرأة، بل جعلت الجنس حرفتها، وكل شيء عندها.


وأصبح على أن أعيد تفسير جميع المظاهر التى سبق أن لحظتها فيها، وكذلك ما تكشف من جلستها أمامى.


أنا الآن أمام فتاة باسلة مكافحة أفنت زهرة شبابها الغض فى طلب العلم وخدمة الإنسانية.


أول ما وضح لى أمره القلم الحبر، أما السجاير البلمونت والصوت المبحوح فقد اعتادت التدخين فى ليالى المذاكرة الطويلة المضنية، وليس فى الليالى الحمراء كما توهمت. أما رخص الزينة والملابس فقد أفنت نقود أسرتها فى شراء المراجع والأدوات والجثث ودفع مصاريف الكلية والانتقال. ولكن لم تصنع كل هذا العبث الفظيع بهيئتها وتترك هذه الرائحة البذيئة تفوح منها؟ إن أمثالها لم يعتدن أناقة المتبطلات الثريات. ولعل المسكينة قد انتبهت أخيرا إلى أن نضارتها قد شرعت فى الذبول، وقاربت الثلاثين أو جاوزتها، من غير أن تستمتع بشبابها، الذى ترك عليه الكد آثارا لا تمحى، ظننتها ـ يا لضلالى ـ آثار كد العاهرة وآلامها المريرة. وها هى ذى الآن تحاول أن تعوض ما فاتها بطريقة فجة، بعد أن تخرجت واستراح بالها قليلا. وهدتها ثقافتها الطبية إلى وسيلة لاصلاح وجهها الذى تغضن، فأهالت عليه كل هذه الكمية من ’’الكريم‘‘ وغطته بعد ذلك بالمساحيق. ثم أرادت أن تبالغ فى زينتها المتأخرة الغشيمة، فنتفت كل شعرة فى حاجبيها، وأعادت رسمهما بالقلم الأسود، ووضعت على عينيها نظارة زرقاء صغيرة مدببة الطرفين، لعلها بعد كل هذا أن تبدو جميلة أنيقة، ولكن هيهات.


وتنبهت إلى حديثها الطلق مع صاحبيها، الذى كانت تقطعه بتوجيه النظرات إلى من حولها، فى اعتداد بظهور شخصيتها على حقيقتها. واختصتنى أنا بعدد لا بأس به من هذه النظرات، ربما لأنى كنت أقرب من فى الأتوبيس ممن لا يعرفونها إليها. وربما لأنها لمحت نظرات الإكبار لمهنتها وثقافتها تحل فى عينى محل نظرات الرثاء والزراية التى صنعتها ظنونى الأولى بها. وأنا بعد ذلك ذو ملامح بارزة كبيرة تخوننى دائما وتفضح مشاعرى كلها بوضوح كامل.


وطرق سمعى بعض من حديثها:


ـ أنا مسافرة الخرطوم بعد شهرين.


ـ دراسة والا ’’بوست‘‘ (يعنى وظيفة)؟


ـ لأ ’’بوست‘‘ حاشتغل هناك.


ـ حتشتغلى فى ايه؟


ـ كل حاجة.. أمراض نسا وأطفال وجراحة.. ويمكن رمد كمان.


ـ وحتاخدى كام؟


ولم يكن هذا سؤالا فى محله. إذ قل من يقبل أن يفصح ببساطة وفى كل مكان عن المرتب الذى يأخذه أو سوف يأخذه. فتحاشت الإجابة عنه وقالت بعد تمهل:


ـ نيفر مايند السلارى Never mind el salary


(أى ما يهمش المرتب)، المهم العيادة، أنا حافتح عيادة هناك.


ولكن صاحبها أصر على أن تجيبه، فاضطرت أن تقول له بصوت خفيض نوعا ما: ’’ستين‘‘.


وسرحت مرة أخرى فى التفكير فى أمرها: إن هذه الفتاة لا تريد أن تلقى عصا النضال. متى إذن ستستمتع بأيامها قبل أن يفوتها ركب الحياة؟ ولماذا إذن كل هذه الزينة التى أساءت إليها أكثر مما أفادتها؟ لقد أنفقت أول شبابها فى طلب العلم، فهل تنفق آخره بعيدا عن أهلها ومعارفها فى طلب المال؟ ماذا يبقى لها بعد ذلك. الهرم والشيخوخة؟ من يدرى؟ لعلها معذورة وما تكسبه هنا لا يكفيها أو يكفى مسئوليات عائلة التزمت بها، كى تعوض ما أنفقته أسرتها عليها. ليتها كانت تتزوج انسانا يناسبها ويقدرها فيعوضها عن كفاحها النبيل.






ومرة أخرى عاد إلى أذنى طرف من حديثها:


ـ وحاتجوز هناك كمان ـ حاتجوز واحد اسود.


قالتها فى نغمة معتذرة سافرة.


وسألها أحدهما:


ـ ايه؟ دكتور؟


ـ لأ، تاجر!


ـ وغنى؟


وأحست بأن هذا السؤال أسمج من السابق عن المرتب، وخيل إلى أنها توشك أن تقول له:


ـ أمال حاتجوزه على ايه يا مغفل؟


ولكنها أجابت بصبر ولباقة:


ـ نوعا ما!


ـ تبقى رايحة تتجوزى مش رايحة تشتغلى.


ـ لا حاشتغل برضه ـ أمال يعنى عاوزه يذلنى بفلوسه؟


ـ وشوفتيه كام مرة؟


ـ شوفته مرتين.


وأشاحت بوجهها، وبعد فترة قالت كأنها تخاطب نفسها:


ـ ’’اسود قوى‘‘.. ثم كأنها تعزى نفسها.. ’’لكن لطيف‘‘..


وعادت إلى وجهى بنظراتها، وحسبتها آنئذ تقارن بين سمرتى الداكنة والتى لا تبلغ حد السواد، وبين لون زوجها المرتقب، فتحس بأنها خرجت مغلوبة.


وسمعتها مرة أخرى تقول:


ـ أهو نغير ألوان...


ولم أفهم تماما معنى هذه العبارة.. هل تقصد التغيير من الظاهر فقط؟ أم من الظاهر والباطن معا؟!


بيد أنى تحاشيت أن تلتقى نظراتها بعينى مرة أخرى ـ فتلمح فيهما من جديد.. نظرات الرثاء الأولى!


0 التعليقات: