Powered By Blogger

نحلة الأربعاء, سبتمبر 02, 2009

نحلة
*****
بقلم: سامية أبو زيد
**********
ألقى برهانه وانتظر عجلة الروليت، وحدق فيها شاردا، لم يكن يهمه المكسب أو الخسارة، فهو ميسور الحال وتلاله لاتختل مهما أخذ منها، لكنه شعور متمكن منه منذ كان طفلا.
إيه... لقد دارت أيامه ومازالت تدور مثل تلك العجلة. فى طفولته كان مولعا بلعبة النحلة، كان يطلقها مرات ومرات ويظل يتأمل فيها بالساعات دونما أى شعور بالملل، إذ ابتكر لنفسها لعبة مصاحبة وهى التخمين، فيراهن نفسه فى كل مرة رهانين... متى وأين ستتوقف النحلة؟
وأسلمته تلك العادة فى طفولته لاتهامات من لم يفهمه من العائلة والأصدقاء، فتارة ينعته البعض بغرابة الأطوار وتارة ينعته البعض الآخر بالتخلف، ولو سمعوا آنذاك بمرض التوحد لتحذلق البعض واتهمه به ولأقيمت مناحة مسبقة فى البيت، ولقامت حروب عائلية بين أبويه حول عرضه على طبيب نفسى، حمد ربه فى سره وابتسم أنهم لم يسمعوا بذلك المرض وقتها وابتسم لنفسه وهو يتخيل تلك المعارك التى لم تحدث.
واتسعت ابتسامته الشاردة ليشرد أكثر وأكثر، هاهو يبتسم لنفسه كما اعتاد فى طفولته، ترى هل يتهمه المحيطون بالجنون الآن كما اتهم مرارا فى طفولته؟ وهنا كادت تفلت منه ضحكة مستهزئة لما يعرفه عن البشر من جبن، فمن ذا الذى سيجرؤ على نعته بالجنون بعد كل ما وصل إليه من شهرة ومال، بل وعلم كذلك؟!
هاهى تدور، لم تتوقف بعد، وهاهو يحدق فيها كالمنوم ويسترسل فى تأملاته وذكرياته، وعاوده حنين لأيام النحلة وكيف كانت أقداره تميل مثلها حتى يخالها النهاية، ثم تعتدل بدون توقع لتستمر فى الدوران والانطلاق نحو هدف عشوائى، بل يظنه البعض عشوائيا. لعل لتلك النحلة التى شغف بها فى طفولته الفضل الأكبر فى عشقه للرياضيات ودراسة قوانين الحركة.
وكلما بدت الحركة عشوائية وخاضعة للصدفة، كلما شعر بالتحدى والإثارة لإثبات العكس، فبرز وبز الجميع منذ صباه المبكر فى علوم الرياضيات التى عشقها وقرأ فيها مثلما تقرأ المراهقات الروايات الحالمة وقصص الحب ذات النهايات السعيدة، وحين وصل تداعى الأفكار به نحو الحب أصابه شجن وانقباض، فقد تذكر حبه الأول وكيف كان التحدى الذى خرج عن سيطرة عقله الفذ وعلومه التى حصلها وكانت تؤهله لنيل درجة الدكتوراة لو أتيح له التقدم لنيلها مباشرة من الجامعة كما يحدث فى البلدان المتقدمة، ولكنه اضطر للصبر على سنوات الدراسة العقيمة كى يتمكن من التحليق فى بلاد العلم والعلماء.
وفى ميلة أخرى للأقدار لم يتمكن من الطيران وظل فى بلاده حين أدرك أن قلبه يثبته فى ترابها، لكم يحقد على قانون الجاذبية الذى يجبرنا على فعل الكثير حتى ننتصر عليه، ولكنه يظل القانون الأكثر رسوخا وتحققا. ولكن بقاءه فى بلاده كان كميلة النحلة ومعاودة انطلاقها، إذ لم يكتف بدراسة الرياضيات التطبيقية فجمع بين دراستها ودراسة الرياضيات البحتة وعلوم الإحصاء والفيزياء ومعها علوم الحاسب الآلى.
تذكر كيف بلغ شغفه بالتحدى والتخمين الدرجة التى كانت تجعله يضع العوائق فى أماكن مختارة وهو صبى لتلك النحلة التى يعشقها، ثم يقبع مكانه فى صبر حتى تفرغ من دورانها، ثم يروع أهله بصرخة فرح لم يستوعبوا سببها قط، وهى ببساطة شديدة صرخة انتصار من استطاع تخمين ما لا يخمن.
وابتسم مجددا وهو يعود بذاكرته لملامح أبيه المندهشة حين طلب منه أن يهديه ساعة إيقاف عندما نجح فى امتحانات الشهادة الإعدادية، فمع الساعة والمسطرة التى لم تكن تفارقه وخيط يستعيض به عن الفرجار كان يمكنه حساب موعد توقف النحلة ومكانها، لكنه لم يتمكن أبدا من حساب نبضات قلبه حين كان يراها، ومتى سيكف عن هذا الصخب؟ فقد كانت المعادلة مجهولة من عدة أطراف لا من طرف أو طرفين، إذ لم يعرف متى أحبها، ولم يدر لم أحبها، ولم يصارحها أبدا بذلك الحب، فظل شعورها نحوه مجهولا رئيسيا لا يمكنه معرفته أو حسابه. وبقى يلف حول قلبه بلا هدف حتى فرقت الأيام بينهما بغياب تام ومفاجئ، لتبقى المعادلة كما هى عصية على الحل أو الاشتقاق.
لكن غيابها صار بالنسبة له مجرد ميلة من تلك الميلات التى تحرف مسار النحلة ولا توقفها، فهو على أية حال لم يكن مقتنعا بالارتباط بامرأة ما لمجرد أن قلبه خانه ومال نحوها دون إرادة منه، فإذا كان للقلب أحكام، فهى لا تسرى عليه، فتلك دولة خالية من القوانين وهو بالتالى ليس مواطنا فيها ولا يعترف بها ويرفض الخضوع لأحكامها المتعسفة الخالية من المنطق.
وعاد ببصره وفكره للروليت ثم تفرس فى الوجوه العالقة بها لتذكره الأنفاس المحتبسة فى الصدور المتحلقة حولها بنحلته الحبيبة، حين كان يغلق النوافذ درءا لنسمة متسللة قد تغير من حساباته، ولكن بابا يفتح على حين غرة أو عنوة من أحد والديه أو إخوته كان كفيلا بهدم التجربة من أساسها، وكأنهم رسل من القدر المشاغب الساخر دوما منه ومن حساباته كسخرية أقرانه منه فى طفولته وصباه واتهمامهم له بالشذوذ والتخلف العقلى.
وفى إحدى الانطلاقات المعهودة من نحلته اكتشف المحيطون أنهم بحضرة عبقرى، لكنه لم يكن مسئولا عن كشف ذلك السر الذى احتفظ به لنفسه طويلا، بل أمينة المكتبة فى المدرسة هى التى وشت به للمدرسين ولبعض المقربين من التلاميذ الذين كانوا يتندرون عليه بكلمة عبقرينو التى استوحوها من مجلات الأطفال التى لازموها وقت أن فارقهم ولازم النحلة والكتاب. تذكر كم سخط عليهم بسبب هذا اللقب الذى كان يقال إما إعجابا أو غيرة وحسدا، حسب القائل ونبرته. وكما أن أول الغيث قطر ثم ينهمر، انهالت عليه الألقاب تباعا ولم تفارقه أبدا فمن نيوتن إلى لابلاس إلى أيزنبرج إلى أينشتاين، وبقى عبقرينو الأكثر التصاقا به وكأنها تهمة يلذ له ولهم تذكرها وبرهنة وجودها.
ومنذ تسرب الخبر عن تلك العبقرية تغير مسار حياته، ولكن فى المقابل تضاعف توتره من تلك العيون المحيطة والمتربصة به، وكأنها سهام توشك على الإيقاع به فى أية لحظة، وأقتلها بالنسبة له عيون الفضول الأبله، الفضول لذات الفضول لا فضول المعرفة الذى يقدسه ويعتبره مفتاح الإنسان لعوالمها. لكم أحاطوه بالأسئلة الغبية، والأدهى منها وأشد ثقلا... اضطراره للإجابة على أسئلتهم كى يترك وشأنه، بيد أن الأمور تغيرت بعد فترة وجيزة، ومل الناس من التحلق حوله واكتفوا بمتابعته فى مجالسهم عن بعد، ففى ذلك البعد فرصة لاغتيابه كيفما يحلو لهم.
تلك الغيبة كانت بمثابة انطلاقة جديدة لنحلته، وصاحبتها قوة دفع هائلة من تفوقه فى الثانوية العامة لتبدأ شهرته الحقيقية فى الجامعة وتستمر النحلة فى الدوران بسرعتها القصوى حتى تصطدم بحائط البعثات العلمية، فيرى فيها بريقا يعمى الأبصار عن مصير يعرفه جيدا مما يجعله يرفض السفر ويؤثر البقاء فى بلاده. وكما ترتد النحلة فى اتجاه مضاد مكتسبة قوة إضافية من اصطدامها بجسم يتحرك بسرعة، يرتد هو الآخر نحو حلم أكبر بالبقاء فى بلاده واستثمار علمه والاكتفاء بنشر رسائله العلمية فى الدوريات العلمية العالمية عن طريق المراسلة.
وهنا انحرفت به الذكرى لسفره لدولة خليجية بدلا من تلك الدولة المتقدمة، وكيف قيل عنه آنذاك إنه مادى وأن عبقريته وعلمه بريئان منه، لكن أحدا منهم لم يفهم مقصده، تماما مثل هؤلاء الذين كانوا يصمونه بالتخلف العقلى حين يرونه مع نحلته بالساعات صامتا متأملا ويحسبونه يلهو.
’’أيتها الروليت الفاتنة، كم تشبهين رحلتى لتلك البلد الخليجى؟‘‘، دارت هذه الكلمات بعقله وهو يتذكر اللغط الذى ثار حوله بعد عودته محملا بأموال تفوح منها رائحة النفط كى يحقق حلما رآه الكثيرون مفرط الغباء وضربا من المقامرة التى اعتادها فى أسفاره الخاصة لبلاد الغرب وفنادقها الصاخبة. كانوا يتحسرون على ذلك العبقرى الذى بدد عبقريته فى اكتناز المال كى يعود ويبدده فى رحلات هنا وهناك، ثم ازدادت تلك الحسرة بإعلانه قرار العودة لبلاده والبدء فى مشروع سوف يبتلع كل رأسماله. وأشار عليه المتعالمون ومدعو المعرفة ببواطن الأمور وحاجات السوق أن يضع أمواله فى البنك أو يفتح متجرا عملاقا، فكان يرمقهم ساخرا وفى ذهنه ما به.
كان يعلم وجهته جيدا ويدرك أن تلك العقول القاصرة المحدودة لن تستوعب فكرته عن الاستثمار الأمثل، فهناك من يستثمر أمواله فى الماس وهناك من يستثمرها فى الذهب، ولكن يبقى استثماره فيما هو الأغلى والأنفس، فهل هناك من هو أغلى من الإنسان؟ لذا كان قراره حاسما، سوف يستثمر ماله وعلمه فى الإنسان، بل فيما هو أغلى وأنفس ما فى الإنسان، وهكذا عقد العزم على أن يضع استثماره فى العقول، وبدأ غرسه فى الأرض التى ظنها الكثيرون بورا، فاختار أرضا صحراوية منعزلة واشتراها بتراب الفلوس كما يقولون، وأقام عليها أول مؤسسة تعليمية متكاملة تعنى بالأطفال ذوى المواهب العقلية الخاصة، فكان يرى فى طلابها أبناءه وأصدقاءه الحقيقيين الذين حرم منهم فى طفولته.
ومع هدأة الروليت واقتراب العجلة من الكف عن دورانها ومع تباطؤ الكرة الموشكة على الانزلاق فى خانتها المقدورة، بدأت أفكاره فى استعادة وضوحها والاقتراب من لحظته الراهنة، فتذكر كيف قسم مؤسسته التعليمية بشكل حاذق، فجعل فيها قسما مجانيا وقسما بأسعار رمزية وقسما بكامل الأجر للقادرين وأبناء الأشقاء الخليجيين، متبعا فى تمويل المدرسة نظرية الأوانى المستطرقة، حتى فتح فروعا لها فى عدة بلاد عربية شقيقة على سبيل الامتنان لأيامه التى قضاها فى أرضهم. وفى تلك اللحظة توقفت العجلة تماما بعد أن سقطت الكرة فى خانتها المقدورة، ولكنه لم يرها، فقد قام تاركا رهانه خلفه بعد أن استحوذ عليه رهان آخر يلح عليه منذ فترة طويلة، حتى تحول إلى سؤال لا ينقطع عن نحلته ومتى وأين ستكف عن دورانها؟
القاهرة ـ مصر الجديدة ـ 25 أغسطس 2009

0 التعليقات: